مسيرةُ بطريرك: عقدان من القيادة الثابتة وحراسةِ الإرث المقدس | مقال بقلم: هبه هريمات

٢٢ نوفمبر ٢٠٢٥
القدس، المدينة العريقة، ذات الإرثٍ الديني الذي يضربُ في عمق التاريخ، والتي نسجتها الجيوسياسيا على نحوٍ معقد نوعاً ما، وكأنّ قول جبران خليل جبران جُعل من أجلها حينما قال: “إننا نحب الورد رغم الأشواك التي تُعانقه.. هكذا الحياة،” فهذا حال كل من تطأ قدماهُ حجارتها القديمة فتتركُ أثراً لا يُنسى على الرغم من عناقها أمواجَ الاضطرابات العاتية على مرّ القرون.
بعبارة أخرى، قد يبدو بقاء مؤسسة يزيد عمرها عن ألفي عام ثابتة على قدميها خلال موجات التوترات هذه التي مرت بها المدينة المقدسة مهمة مستحيلة. بين الصراع والتعايش، لطالما حرصت بطريركية الروم المقدسية على حراسة وحماية النبض المسيحي الأرثوذكسي للقدس. وعلى مدى العقدين الماضيين، وقعت هذه المسؤولية المقدسة على عاتق رجل واحد.
مع احتفالنا بالذكرى العشرين لتنصيب غبطة البطريرك ثيوفيلوس الثالث، البطريرك الـ 141 للبطريركية المقدسية، نستكشف إرثَ رجلٍ دخل في دوامة من التحديات وبرز كركيزة للاستقرار، وحارسٍ للإرث المقدس، وصوتٍ للسلام.
رحلة البطريرك ثيوفيلوس إلى العرش البطريركي بدأت بطفولة بسيطة في أوائل الخمسينيات في غارغالياني، ميسينيا، اليونان، وصل إلى القدس في يوليو 1964 في سن الثانية عشرة ليلتحق بالمدرسة البطريركية. كان مجرد صبي آنذاك، وكان عليه أن يتعامل مع حياته الجديدة وسنوات مراهقته، ليكوّنَ مسارًا واضحًا من الإخلاص للأماكن المقدسة والالتزام بالخدمة الكنسية.
وبما أن رعاية ”أم الكنائس“ بحد ذاتها تمثل تحديًا كبيرًا، وعليه فمن يتولاها يجب أن يكون على نفس القدر من الليونة والجاهزية المعرفية. فنجدُ أن الطابع الأكاديمي لغبطته كان متنوعاً. درس اللاهوت في جامعة أثينا، وحصل على درجة الماجستير من جامعة دورهام في إنجلترا، فَكان مجهزًا بشكل فريد للتعامل مع الواقع متعدد الثقافات واللغات في الأراضي المقدسة. ولكن ربما خدمته كرئيس شمامسة للبطريرك الراحل بنديكتوس الأول كانت تجربة لا تقدر بثمن لمنحه القدرة على اكتساب خبرة مباشرة في سياسات البطريركية الداخلية والخارجية. كما قد خدم كوكيل بطريركي في قطر، وهو أحد أوائل رجال الدين المسيحيين الذين خدموا في المجتمع القطري المحافظ، كما كان مبعوث البطريركية إلى موسكو. مما أسهم في توسيع آفاقه وتعميق فهمه للمجتمع الأرثوذكسي العالمي.
في 22 أغسطس 2005، انتُخب ثيوفيلوس بالإجماع بطريركًا، وهو قرار أقره المجمع الأرثوذكسي العام للقسطنطينية. تم التنصيب بعد ثلاثة أشهر تماماً، في 22 نوفمبر 2005، في كنيسة القيامة. حضر التنصيب مندوبون من جميع الكنائس الأرثوذكسية، بالإضافة إلى مسؤولين رفيعي المستوى من اليونان والأردن وقطر. كانت البطريركية تواجه في تلك الفترة اضطرابات داخلية ومالية. لذلك، من أجل استعادة الثقة والأمل في البطريرك الجديد، لم تكن مهمة ثيوفيلوس الثالث الفورية هي القيادة الروحية فحسب، بل كانت إعادة بناء المؤسسة نفسها بدقة متناهية.
كان الاعتراف الدبلوماسي جزءًا أساسيًا من هذه المهمة. في النسيج الجيوسياسي المعقد للقدس، لا تُمنح الشرعية كأمرٍ مُسَلم به، بل تُكتسب وتُؤكد. من خلال دبلوماسية ماهرة، حصل على الاعتراف الرسمي من الأردن والسلطة الفلسطينية في عام 2005، ثم من الحكومة الإسرائيلية في عام 2007. كان هذا أكثر من مجرد إجراء شكلي؛ فقد كان المفتاح الذي فتح الباب أمام البطريركية للقيام بالحكم وحماية ممتلكاتها والتحدث بسلطة على منابر الساحة العالمية.
ولعل الدليل الأكثر حضوراً في الذاكرة على القيادة النيرة للبطريرك ثيوفيلوس لا يتعلق بالسياسات، بل بالحجر. في عمل تعاوني غير مسبوق، جمع رؤساء كنيسة القيامة الروم الأرثوذكس والفرنسيسكان والأرمن. تحت القيادة العلمية للبروفيسورة اليونانية أنتونيا موروبولو وفريقها، تم إجراء ترميم ضخم لاستعادة الموقع الأكثر قداسة في المسيحية؛ قبر السيد المسيح. فقد كان الموقع الذي يضم المثوى الأخير لجسد ربنا يسوع المسيح في حالة يرثى لها، حيث كان الهيكل نفسه مدعومًا بشبكة من قضبان معدنية صلبة تشبه القفص، مع خوف من أنه قد ينهار في أي لحظة، مما قد يعرض حياة الأشخاص الذين يقفون داخل أو حول القبر للخطر.
استغرق المشروع عشرة أشهر، واكتمل في مارس 2017، أي قبل موعد عيد الفصح بقليل، وتضمنت العملية تفكيك وإصلاح الحجارة المحيطة للقبر، وتنظيف قرون من الشمع الذائب المتراكم على الرخام المحيط، ولأول مرة منذ قرون تم كشف سطح الحجر الأصلي لمكان دفن السيد المسيح. لم تؤد عملية الترميم هذه إلى تثبيت هيكل القبر المقدس فحسب، بل عززت أيضًا التعاون المسكوني غير المسبوق بين المجتمعات المسيحية في الأراضي المقدسة. وكما أعلن البطريرك ثيوفيلوس الثالث في حفل إزاحة الستار: ”هذه لحظة تاريخية من التعاون بين المجتمعات المسيحية الكبرى حول العالم لضمان الحفاظ على المكان المقدس الفريد للمسيحية، قبر الخلاص“.
نجاح المشروع مهد الطريق لمرحلة ثانية من الترميم، ركزت على أساسات كنيسة القيامة وأرضيتها، هذه المرة بقيادة تقنية لمؤسسات أكاديمية ايطالية متخصصة في الترميم، منها جامعة سابينزا في روما.
امتد ترميم المواقع المقدسة في عهد غبطته إلى مواقع أخرى، منها ترميم مغارة المهد وتثبيت سقف الكنيسة وفسيفسائها باعتبارها معالم بارزة في حماية الإرث المسيحي. كما أشرف البطريرك على صيانة وتجديد العديد من الأديرة والأضرحة والكنائس في أنحاء الأراضي المقدسة، بما في ذلك دير القديسة كاترينا في سيناء ودير الصليب في القدس. تعكس هذه المشاريع، التي غالبًا ما يتم تنفيذها بالتعاون مع شركاء محليين ودوليين، رؤية غبطته للأماكن المقدسة باعتبارها ”شهودًا حية على التاريخ والإيمان“، لتكون في متناول الجميع ومحمية للأجيال القادمة.
في مدينة عادةً ما تختلط فيها أصوات أجراس الكنائس مع صوت الأذان وصوت بوق الشوفار(اليهودي)، دأب البطريرك على اتباع نهج أبوي: نهج الحوار. لقد كان صوته دعوة مستمرة للتعايش السلمي، انطلاقًا من الدور الفريد الذي تلعبه القدس باعتبارها ملتقى الأديان الإبراهيمية الثلاثة، فقد انخرط البطريرك ثيوفيلوس في حوار مستمر مع قادة الطوائف الكاثوليكية والبروتستانتية والإسلامية واليهودية، على الصعيدين المحلي والدولي. مع الدعوة إلى السلام والمصالحة في المنطقة وما بعدها.
ولعل أقرب لقاءاته المسكونية لذاكرتنا هي لقاؤه مع البابا الراحل فرانسيس والبابا ليو الرابع عشر المنتخب حديثًا، والتي تؤكد باستمرار على أهمية السعي لوحدة مسيحية مشتركة في الأراضي المقدسة والعالم. ولا ننسى زيارته الرعوية والإنسانية الهامة مع الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا إلى غزة في يوليو الماضي، حيث قدم يد العون والحضن الأبوي لوجودٍ أنهكتهُ الحروب.
في درب الكهنوت، البطريرك هو راعٍ قبل كل شيء. لذا، فإن رعيته هي جوهر رسالته. فالدفاع عن حرية العبادة وحقوق الأقليات المسيحية، سواء في الأراضي المقدسة أو على الصعيد العالمي هو جزء لا يتجزأ من رسالة البطريرك ثيوفيلوس الثالث في الحفاظ على الوضع الراهن “الستاتيكو” في البلدة القديمة في القدس وما يتضمنه ذلك من حوار مع القادة اليهود لضمان ذلك.
وعلى نفس الصعيد، يرحب غبطته بالمشاركة المستمرة للقادة الإقليميين والعالميين، بما في ذلك جلالة ملك الأردن عبد الله الثاني والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كما شهدت زيارة غبطته له في سيبتمبر الماضي، لحماية الإرث الديني المتنوع للمدينة المقدسة. بالإضافة لدعواته المستمرة للمجتمع الدولي، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لدعم الجهود الرامية للحفاظ على الوضع الراهن وضمان استمرار وجود المسيحيين في الأراضي المقدسة. خاصة خلال زياراتهم إلى المدينة المقدسة التي تشمل عادة اصطحاب غبطته لقادة العالم داخل كنيسة القيامة، مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ونائبه جي دي فانس، وملك بريطانيا تشارلز الثالث، وابنه الأمير ويليام، من بين كثير آخرين.
رفع صوت الرعية يعني أيضًا التحدث على المنصات الدولية. والسيرة الذاتية للبطريرك ثيوفيلوس حافلة بمشاركات عدة في المؤتمرات العالمية، كتحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة، ومجلس الكنائس العالمي، ومؤتمر قادة الأديان العالمية والتقليدية، ومجلس المؤسسات الدينية في الأراضي المقدسة، للتشديد على الدعوة إلى السلام وحرية العبادة وصون الأماكن المقدسة.
أخيرًا، السمة الاضافية التي ميزت البطريركية على مدار العشرين عامًا الماضية كانت في الاستثمار في التعليم والرعاية الصحية ومرافق الخدمات الاجتماعية. وفي حين أن هذا العمل لا يزال قيد التنفيذ، إلا أن البطريرك يولي أهمية كبرى للعلم، باعتباره أداة للنمو الشخصي والمساعدة في الحفاظ على الهوية المسيحية الجمعية وتعزيز التفاهم بين الطوائف.
إذا ما نظرنا إلى الوراء على مدى العقدين الماضيين، وتذكرنا إنجازات البطريرك ثيوفيلوس الثالث، أو على الأقل ما يمكن أن يتضمنه هذا المقال، فإننا نجد حارسًا للأحجار المقدسة، وراعيًا للنفوس، وبانيًا للجسور بين الأمم، وحاميًا للوجود المسيحي في الأرض المقدسة. تتسم فترة ولايته بالمرونة والدبلوماسية ورؤية لا تنظر إلى الأماكن المقدسة على أنها آثار من الماضي، بل كشهادة حية على الإيمان للأجيال القادمة. إن إرث غبطته محفور بالفعل في نسيج البطريركية التي هي القدس، لكن رسالته لم تنتهِ بعد.
نسأل الله أن يمنح أبانا وبطريركنا ثيوفيلوس الثالث سنوات عديدة بمزيدٍ من الصحة والحكمة والقوة ليواصل قيادة ”أم الكنائس“ بنفس التفاني والشجاعة اللتين ميزتا العشرين عامًا الأولى من مسيرته. كل عام وأنتم بخير، غبتطكم!

Reviews

100 %

User Score

2 ratings
Rate This

Sharing

Leave your comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *