المالُ والرّوح: منظورٌ لاهوتيٌّ أرثوذكسيٌّ في سياقِ الخلاصِ والتّألّه
الأب زكريا رزق
مع اقترابِ صوم الميلاد، تتّجه أنظارُ الكنيسةِ نحو السّرّ الذي غيّر تاريخ البشريّة: تجسّدُ ابن الله، الذي “وهو الغنيّ افتقرَ لأجلِنا لكي نحيا بفقره” (2كورنثوس 8: 9).
وفي هذا الزّمنِ اللّيتورجيّ، تُعيدُ الكنيسةُ الشّعبَ إلى جوهر الإيمان: أنّ الله لم يأتِ إلى العالم في قصرٍ أو تحت مظلّةِ سلطة، بل في مذودٍ فقير، بين أيدٍ بسيطة، وفي أحضانِ بشرٍ لا يملكون شيئًا سوى قلبٍ مفتوح.
في ضوءِ هذا التّجسّدِ المملوءِ اتّضاعًا، تكتسب علاقة الإنسان بالمالِ والغنى بُعدًا خلاصيًّا خاصًّا. فصومُ الميلاد ليس مجرّدَ انقطاع عن طعامٍ معيّن، بل هو دعوةٌ إلى أن يتشبّه المؤمن بالابن المتجسّدِ الذي اختار الفقر طريقًا للمحبّة، وجعل من كلّ فقيرٍ أيقونةً لوجهه، ومن كلّ محتاجٍ موضِعًا لحضورِه.
يمثّلُ المال أحدَ أبرز الميادين التي يُختبَر فيها صراع الإنسانِ الرّوحي. ففي الكتاب المقدّس، يحملُ المالُ وجهَين متناقضَين: فهو عطيّةٌ إلهيّةٌ يمكن توظيفُها في الخير، ولكنّه في الوقت ذاتِه قوّة خطرةٌ قادرة على استعباد القلب.
أمّا في صميمِ اللّاهوت الأرثوذكسي، فالمالُ يرتبط ارتباطًا مباشِرًا بمفهومِ الخلاص الذي لا يُفهَم كتبريرٍ قانونيّ مجرّد، بل كعمليّةِ شِفاءٍ وتألُّه تستدعي تنقيةَ القلبِ وتحريرِه من كلّ تعلُّقٍ يُقيّد حرّيتهُ الدّاخليّة.
1- المالُ كعطيّةٍ ووَكالَة
يؤكّد التّقليد الأرثوذكسي أنّ المالَ جزءٌ لا يتجزّأ من الخليقةِ الحسَنةِ التي أودعها الله في يدِ الإنسان. غير أنّ النّظرةَ اللّاهوتيّةَ ترفض اعتبار الإنسان “مالكًا مُطلَقًا” لهذه الخيرات، بل تصفه بأنّه “وكيلٌ أمين” ومؤتَمنٌ عليها.
يتجذّر هذا المفهومُ في تعليم العهد الجديد عن الوكالة في رسالة الرّسولِ بطرس ” لِيَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ مَا أَخَذَ مَوْهِبَةً، يَخْدِمُ بِهَا بَعْضُكُمْ بَعْضًا، كَوُكَلاَءَ صَالِحِينَ عَلَى نِعْمَةِ اللهِ الْمُتَنَوِّعَةِ” (1 بطرس 4: 10 )
يرى القدّيسُ يوحنّا الذّهبيّ الفم أنّ المالَ هو مُلكٌ للرّب، وأنّ الغنى ليس ملكيّةً مُطلقةً للفرد، بل هو وديعةٌ ائتمنَ الله عليها الأغنياء.
لم يُمنحِ الغنى ليُصرفَ على التّرفِ والكماليّات المفرطة، بل ليوزّعَ على المحتاجين.
يرمي القدّيس الذّهبيّ الفم إلى أنّ المال، عندما يُفهم باعتباره ملكيّةً ذاتيّةً هدفُها الإشباع، فإنّه ينحرف عن غايتِه الأصليّةِ ليصبح مصدرًا للعبوديّةِ النّفسيّة.
2- محبّة المال: العائقُ الرّوحيُّ للخلاص
تضع الأرثوذكسيّةُ تفريقًا حاسمًا بين المال كأداةٍ ومحبّةِ المال كشهوة. فالمالُ يمكن أن يكون وسيلة للرّحمة والإحسان، بينما تُعدُّ شهوةُ الاقتناءِ شكلاً من أشكال الوثنيّة، لأنّها تحوّل اتّجاهَ القلب من الخالقِ إلى المخلوق.
يعتبرُ القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم أن الرّحمةَ هي السِّمةُ الأساس للتّشبُّهِ بالله (لا شيء يجعلنا متشبّهين بالله بقدر أن نمنحَ غفرانًا…”). وبالتّالي، فإنّ من يجرّدُ نفسه من الرّحمة، يكون قد جرّدَ نفسه من جوهرِ الإنسانيّةِ الحقيقيّةِ التي خلقه الله عليها.
في نظر الذّهبيّ الفم، فإنّ الغنيَّ الذي يرفض مدّ يدِ العونِ للفقيرِ لا يفقد فضيلة الرّحمةِ فحسب، بل يهدّدُ إنسانيّتَه الرّوحيّة، لأنّ الرّحمةَ هي الرّكيزةُ التي تحافظ على صورةِ الله في الإنسان.
3- الخلاصُ كـ ” تعاونٍ و تحرّرٍ من قيودِ المال “
يُعرّفُ الخلاصُ في اللّاهوت الأرثوذكسيّ بأنّه تفاعلٌ (Synergia) بين النّعمةِ الإلهيّةِ والاستجابةِ الحرّة للإنسان.
في قصّة الرّئيسِ الغنيّ (لوقا 18: 18–27)، يكشف المسيحُ أنّ مجرّد حفظ الوصايا لا يكفي للخلاص طالما ظلَّ القلبُ مكبّلاً بأسرِ محبّة المال.
يعلق القدّيس كيرلّس الإسكندري على مقطع الشّابِّ الغنيّ:
”كان الشّابُّ ملتصقًا بالغنى، غير قادر أن يحرّر نفسَه منه.“
فالسّيّدُ المسيح لم يطلبِ التّخلّي عن الثّروة كغايةٍ بحدِّ ذاتِها، بل كدواءٍ لمرضِ الرّوح. وبالتّالي، فإنّ التّحرّر من عبوديّة حبِّ المال هو جزءٌ أساسٌ من عمليّةِ الانفتاح على عمل النّعمة الإلهيّة.
4- الرّحمةُ والصَّدَقَةُ في مسيرة التّألّه
الرّحمة في اللّاهوتِ الأرثوذكسي ليست مجرّد فضيلةٍ إضافيّة، بل هي علامةٌ جوهريّةٌ على العضويّةِ الحقيقيّةِ في جسد المسيح.
الصّورةُ المركزيّة هنا هي أنّ الفقيرَ يمثّل أيقونة المسيح
والصّدقةُ وفقًا للقدّيس غريغوريوس تتجاوز كونَها إغاثةً اجتماعيّة، لتصبح اشتراكًا فعليًّا في محبّة الله، أي خطوةً نوعيّةً ضمن مسيرة التّألّه.
5- البُعدُ الأسراريّ: المذبح والفقير وجهان للمسيح
يؤسّس تعليمُ القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم رابطًا لاهوتيًّا لا ينفصمُ بين سرّ الإفخارستيّا وخدمة الفقير. فيقول (Homiliae diversae, PG 49):
”هذا الخبزُ تقدّمُه على المذبح، وذاك الجائعُ تهملُه؟“
ويقارن بين نوعَين من التّقدماتِ “الخبزُ” و”المذبح”:
• الخبز على المذبح: يشيرُ إلى القربان المقدّس (الإفخارستيّا)، وهو أسمى شكلٍ من أشكال العبادة المسيحيّة.
• الخبزُ للجائعِ (مذبحُ المسيح): يشيرُ إلى جسد المسيح في شخص الإنسان الفقير والمحتاج.
في النّتيجة، يتمُّ اختبارُ المال في ضوء العلاقة بين “جسدِ المسيحِ على المذبح” وجسدِه المتألّمِ في الفقراء”.
6- المالُ في الدّينونة الأخيرة
تؤكّد النّصوصُ الكتابيّة أنّ مسألةَ المالِ ستكون حاضرةً في حساب الإنسان عند الدّينونة، ليس بسبب امتلاكِه في حدِّ ذاتِه، بل بسبب تقاعسِه عن استخدامِه في المحبّة والرّحمة.
يقول القدّيس باسيليوس الكبير :
”الذي لم ترحَمْهُ اليومَ سيقوم ليدينك في يوم الدّينونة.“
7- الوجه الإيجابي: المال كأداة للخلاص
عندما يُستخدَم المال بإخلاصٍ في عمل الخير، فإنّه يتحوّل من مصدرِ خطرٍ روحيّ إلى قناةٍ لنعمة الله.
فالصّدَقةُ كَنزٌ سماوي؛ ليست فقدانًا للغنى بل نقله إلى السّماء. فالمال الذي يُعطى بمحبّةٍ يصبح وسيلةَ خلاصٍ ليس للفقراء وحدَهم، بل وللغنيّ المعطي نفسِه.
بالنّتيجةِ، المال ليس مجرّدَ عاملٍ خارجيٍّ أو اقتصاديّ، بل عنصرٌ روحيٌّ عميق. فالمال قد يصبح قوّةً هدّامةً عندما يتحوّل إلى صنم يُعبَد، وقد يصبح وسيلة للخلاص عندما يُستخدم كأداةٍ للرّحمة.
تقليدُنا الأرثوذكسيّ يرى أنّ الميلاد ليس حَدَثًا تاريخيًّا بحدِّ ذاتِه، بل هو دعوةً دائمةً للإنسان لأن “يتجسّد” هو أيضًا في محبّة القريب، وأن يجعل من الغنى وسيلةً للخدمة لا للسّيادة، ومن المالِ طريقًا للرّحمةِ لا للعُزلة. إنّ مسيرةَ الصّوم، بحسب الرّوح الآبائيّة، ليست رحلةَ امتناعٍ عن المآكِلِ فحسب، إنّما تحريرٌ للقلبِ من الأهواء وفي مقدّمتِها محبّةُ المال، لكي يتهيّأ المؤمنُ لاستقبال المسيح المتجسّدِ في مذود القلبِ وفي وجهِ كلّ أخٍ صغير.
وبذلك، يصبح صومُ الميلادِ مسيرةً مزدوجة:
مسيرةً نحو مغارةِ بيتَ لحمَ، ومسيرةً نحو الإنسانِ الآخَر.
مسيرةً نحو المسيح المتجسّد، ومسيرةً نحو المسيحِ المتألّمِ في الفقراء.












