أحد لوقا الثالث عشر

بسم الاب والأبن والروح القدس الإله الواحد أمين.

عميقةُ هي الرّغبةُ في التّديّن والفداء. رغبةٌ أبديّةٌ أحيانًا شديدة وأحيانًا مسترخية، في الخلود، في معرفة الإرادة الإلهيّة، في الطّريق الذي مع ذلك يؤدّي إلى الجنّة. لكنّنا نحن البشر كثيرٌ منّا، نريد أحيانًا التّوفيقَ بين الحياةِ الدّنيويّة والتّديّن، بين التّمتّعِ بالخيرات المادّيّةِ واكتساب خيرات الجنّة.

كان للشّابِّ الغنيّ اهتماماتٌ روحيّةٌ عظيمة. وكان أيضًا رئيسًا للمجمع اليهودي. عندما رأى الرّبَّ تقدّم إليه وسأله باهتمام كبير: أيّها المعلّمُ الصّالح، ماذا أفعلُ لأرث الحياةَ الأبديّة؟ فأجابه الرّبّ: لماذا تدعوني صالحًا وأنت تظنّني إنسانًا بسيطًا؟ ليس أحدٌ صالحًا تمامًا إلا الله. أنت تعرف الوصايا: لا تزنِ، لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزّور، أكرم أباك وأمَّك. فوجئ بهذا الجواب غير المتوقَّع، وقال في دهشة: ولكن هذه كلُّها حفظتُها منذ طفولتي! أجاب الرّبّ: ينقصك شيء واحد: بِعْ ممتلكاتِك واعطِها للفقراء، فيكونُ لك كنزٌ في السّماء، وتعال اتبعني فلمّا سمع ذلك حزِنَ حزنًا شديدًا. لأنّه كان غنيًّا جدًّا ولم يشأ أن يتخلّى عن ثروته. فترك المسيح.

ولكن كيف رفضَ هذا الشّابُّ، صاحبُ هذه الاهتماماتِ الرّوحيّةِ العظيمة، وصيّةَ الرّبّ؟ كان لديه اهتمامٌ كبيرٌ بالخلود، وهو أمر يفتقرُ إليه كثيرٌ من النّاس الذين يعيشون فقط من أجلِ الملذّات والأشياءِ المادّيّة. أراد أن يرثَ الحياةَ الأبديّة. ولهذا السّبب، كافحَ منذ طفولتِه لحفظِ وصايا الله. وسعى لإيجاد المعلّمِ المناسبِ للحصول على إجابةٍ على هذا الأمر الخطير. لأنّه كان يتوقّعُ أن يكون الرّبُّ قادرًا على قيادتِه بأمانٍ إلى الحياةِ الأبديّة. لذلك انتظر أن يسمع شيئًا مميَّزًا وأسمى مما فعلَه. ولكن عندما تلقّى هذه الإجابة، فوجئ، كانت لديه حياةٌ طاهرة، وكان لديه إيمان، وكانت لديه مساعي، لكنّه لم يكن لديه معرفةٌ بذاته أو استعدادٌ للطّاعة، التّضحية. لقد رغب في الحياة الأخرى، لكن شغفَ الجشعِ الرّهيب كان يمتلكُه.

كان لديه كما يعتقد العالم، جميع المؤنِ اللّازمة ِلحياة دنيويّةٍ مريحة. لكنّه لم يكن راضيًا تمامًا عن العالم وملذّاتِه، والتّمتّعِ بالثّروة ومجدِ المنصب. ليس لأنّه كان يكرهُها، بل لأنّه أراد أيضًا أن يعيش حياةً وفقًا لله. لقد تمنّى إيجاد طريقةٍ للتّوفيقِ بين الثّروة والتّقوى. أن يحصلَ على ما يرضيه وفي الوقت نفسِه يكون على وفاقٍ مع شريعة الله. حتى ذلك الحين، بذل بعض الجهود، ويبدو أنّه حقّق شيئًا. لكنه لم يكتفِ بذلك. بعض وخزاتِ الضّميرِ أخبرته أنّه ليس على وفاقٍ مع الله، وأنّه مشكوك في نيله الحياةَ الأبديّة.

وبينما بدا في البداية مستعدًّا للاستماع إلى تعليماتِ الرّبّ وتطبيقِها، إلا أنّه لاحقًا، عندما واجه معضلةَ الاختيارِ بين المسيح والذّهب، فضّل غناهُ وأنكرَ الملكوت الأبديّ.

لذا لا يكفي الإيمانُ بالحياةِ الأبديّةِ والرّغبةُ فيها. ولا يكفي الاهتمامُ بالرّوحانيّاتِ والاستماع إلى المواعظ الدّينيّة، ولا يكفي أن يحفظَ الكثيرُ منّا بعضَ الوصايا الأساس منذ الصّغَر. قد تكون بعض أهوائِنا مدمِّرةً لخلاصِنا إن لم نكن مستعدّين للطّاعةِ والتّضحية. لذلك، علينا أن نتعلّم طاعةَ وصايا الله. جميعَها وليس فقط تلك التي نريدُها. إذا أردنا أن نكون تلاميذَ حقيقيّين للمسيح، فعلينا أن نتبعَه أينما دعانا، مضحّين بكلّ شيء من أجلِه مهما بدا ذلك صعبًا أو مستحيلًا.

عندما رأى المسيحُ الشّابَّ يغادرُ حزينًا، قال: ما أصعبَ دخولَ أصحابِ المالِ إلى ملكوت الله! إنّ مرورَ جملٍ من ثقب إبرةٍ أيسرُ من دخول غنيٍّ ملكوت الله. تعجّب الذين سمعوا ذلك: فمّن يخلصُ إذن؟ فأجاب الرّبّ: إن ما يستحيلُ فعلُه بقوّةِ الإنسان الضّعيفةِ ممكنٌ وقويٌّ بنعمةِ الله.

لذلك فإن نعمةَ الله تجعل ليس فقط الصّعبَ ممكنًا، بل والمستحيلَ أيضًا ممكنًا. لأنّه بنعمة الله فقط يمكن للغنيِّ أن يتحرّر من تعلّقه بثروتِه. وبالطّبع، وبشكلٍ عامّ، لا يمكن التّغلّبُ على جميع التّعلُّقاتِ بمختلفِ الأهواء التي يمتلكُها الإنسانُ إلا بنعمةِ الله. إلا أنّ الرّبَّ يشدّد على التّعلّق بالثّروة، لأنّها تخلق تبعيّةً كبيرة. إنّها تأسرُ الإنسانَ وتسيطر عليه، وتربُطُه بالمادّة وتقسّيهِ بشدّة. لهذا السّببِ يشرح لنا الرّبّ أنّ التّحرُّرَ من الثّروةِ مستحيلٌ بقوّتِنا البشريّةِ الضّعيفة، ولا يمكن تحقيقُه إلا بنعمتِه. ولكن بشكلٍ عامّ علينا جميعًا مهما كانت عاطفتُنا ضعيفة، أن ندركَ أنّنا جميعًا في طريقِنا إلى ملكوت الله نحتاجُ إلى نعمة الله. لا نستطيع فعل شيء بقوانا وحدَها، ولا نستطيع التّغلُّب على أيةِ عاطفة. فالحياةُ الرّوحيّةُ حياةٌ خارقةٌ للطّبيعة، فهي معجزةٌ من معجزات نعمةِ الله. إنّ انفصالَ قلبِ الإنسانِ عن المادّة والعالمِ والجسد، والتّوجّه نحو الله والسّماوات، هو معجزةٌ من معجزات نعمة الله. النّعمةُ الإلهيّةُ تحرِّرُنا من أهوائِنا، وتدفعُنا إلى التّوبة، وتطهِّرُنا، وتجدِّدُنا، وتقدِّسُنا. نحن نعمل أقلّ ما يمكن، ونقدّمُ ما لدينا من إرادة، ونعمةُ الله تصنعُ ما هو عظيمٌ ومستحيل. فلنعمل أقلّ ما يمكن، حتى يمنحَنا الله نعمتَه اللامتناهية، نعمتَه القديرة.

Reviews

0 %

User Score

0 ratings
Rate This

Sharing

Leave your comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *